cccc: فبراير 2011

cccc

تحدث طبيبي النفسي عن ذلك الإنسان الذي يعود من المجاعة ناسيا كيف يأكل. على الموائد المعدة للمصالحة يقيء لاإراديا. أعتقد أنني أقيء أيضا بأشكال مختلفة Subversiveness is neither cool nor adolescent

الثلاثاء، فبراير ٠٨، ٢٠١١

 

الثورة الحقيقية



مكان التجمع: ميدان التحرير. وأين؟ عند أحد عواميد الكهرباء.


أعادت الأحداث المصرية الأخيرة إلى الساحة السياسية والإعلامية مصطلحات حسبناها ذهبت أدراج الرياح، كالكلام عن الثورة وإرادة الشعب وغيرها من الشعارات التي يرن فيها صدى الحرب الباردة ولم تكن قد وجدت لنفسها حيزا في عالم العولمة وهيمنة الرأسمالية الجديدة. كما أن الكثيرون يعتبرونها عاطفية وساذجة بشكل زائد عن اللزوم.
إلا أن الحاضر في ميدان التحرير يستشعر أن شيئا ما في مصر تغير بالفعل بشكل جذري - وبغض عن النظر عن المكاسب أو المخاسر السياسية التي ستتمخض عنها أحداث هذه الأيام. ولعل أكثر المشاهد تعبيرا عن ذلك التجمعات الليلية حول عواميد الإضاءة في الميدان، وهي المصدر شبه الوحيد للكهرباء بالنسبة للمعتصمين.



بدءا ذي بدء أحسب القول جائزا بأن التليفون المحمول هو السلاح الرئيسي في أيدي المعتصمين، إذ تعتمد "الثورة" اعتمادا حيويا على الاتصال المستمر بوسائل الإعلام الدولية، وذلك لمواجهة حملات التضليل المعلوماتي التي تشنها وسائل الإعلام الرسمية على المواطنين خارج الميدان، لتسحب بذلك بساط التأييد من تحت المتظاهرين. وبما أن الهواتف النقالة بحاجة إلى شحن دوري لبطارياتها، فإن تأمين مصادر للكهرباء في الميدان أصبح من الهواجس الحيوية، خاصة وأن غالبية المباني والمحلات والمطاعم المطلة على الميدان إما مغلقة أو احترقت جراء أحداث العنف يوم الجمعة 28 يناير.


فما كان من المعتصمين إلا أن لجئوا إلى سحب الكهرباء من عواميد النور التي تضيء الميدان ليلا. فصارت أماكن لتجمع المتظاهرين على اختلاف أطيافهم، يلتفون حول موزع للكهرباء سلكه مغروس في أحشاء العامود ويتناوبون على إعادة الحياة إلى هواتفهم. وأصبحت جمل ك"حد معاه شاحن؟" و"عندكوا فيشة فاضية؟" من الأكثر ترددا في الميدان.



"مبارك دمر حياتي"، هكذا يقول محمد محمود محدثا شابا من أبناء الطبقة الغنية، أبيض البشرة أنيق الهندام، ينصت باهتمام ويهز رأسه موافقة بين الفينة والأخرى. الإثنان يجلسان مقرفصين بجانب أحد عواميد الكهرباء بالجزيرة الحجرية – أو الكعكة الحجرية كما يسميها المصريون - التي تتوسط ميدان التحرير. يحملان العلامات المألوفة التي أصبحت بمثابة زي رسمي للقابعين هنا: قطعة من القطن مثبتة بشريط لاصق على الجبين تضمد جروحا أصيبا بها جراء تراشق المتظاهرين بالحجارة مع فرق البلطجية وغيرهم من مؤيدي النظام. ورذاذ من أوراق الحشيش الأصفر الجاف جمعها جسداهما استلقاء وقرفصة في حدائق الميدان. وأخيرا وجه يرتدي حالة ما بين الإرهاق والنشوة والشديدين.
قصة محمد التي يلخصها بتلك الجملة "مبارك دمر حياتي"، والتي قد لا تختلف بالنسبة للبعض عن مفاهيم كالثورة وإرادة الشعب فيما تحمله من نبرة عاطفية تميل نحو المبالغة، تلك القصة نموذجية تعطي تصورا عن خلفية الكثيرين من الموجيدين بالميدان، وفي نفس الوقت تكدس العناصر المألوفة بشكل قد يجعلها تبدو أقرب من الخيال.


محمد رجل في منتصف الثلاثينات، حاصل على شهادة الابتدائية، متزوج وله بنت ويعيش مع اسرته في بيت حماته نظرا لصعوبة الحصول على مسكن منفصل. هو رجل هادئ الملامح، وديع الطباع، حتى أن صوته يخلو من "البحة" التي تصاحب الكثير من المتظاهرين جراء هتافهم المتواصل بشعارات اسقاط النظام. يقول: "الموضوع بدأ بمسألة تافهة، بدأ بباقة من الخس." لكن "يوم الغضب" كما أطلق عليه المتظاهرين، وهو يوم الجمعة 28 يناير، ما لبث أن غير حياته بأكملها، فانتهى به مطلقا وتاركا منزله بلا رجعة ومعتصما في ميدان التحرير لستة أيام متواصلة.


كان قد سمع بالمظاهرات التي خرجت إلى الشوارع يوم الثلاثاء 25 يناير، لكنه لم يعرها اهتماما خاصا. وفي صباح يوم الجمعة 28 سأل زوجته "لماذا لا تعدين طبقا من السلطة لابنتنا بباقة الخس التي اشتريتها؟" اشتراها منذ حوالي اسبوع، وكان يعيد عليها السؤال ذاته كل بضع أيام لكنها كانت تتجاهله، فيضرب كفا على كف ويقول "حسبي الله ونعم الوكيل."



ثم بعد قليل تقول (كعادتها): "لقد نفذ مصروف البيت." فيقول: "كيف؟ باقى أكثر من إسبوع على انتهاء الشهر!" يعطيها مصروفا سخيا رغم أجره الذي لا يتعدى الثلاثين جنيها يوميا، أي أن الأسرة فعليا تعيش تحت خط الفقر. لكن يشك منذ فترة أنها تختزن من المصروف وتعطي لأمها دون علمه. رغم ذلك يضغط على أسنانه وينزل إلى السوق ويشترى بعض الأغراض، لكنه لا يشتري خسا. وعندما يعود ويفتح الثلاجة ليرص فيها المشتريات يرى باقة الخس وقد بدأت تذبل، فيسألها، كاظما غيظه: "لماذا لا تعدين طبقا من السلطة لابنتنا بباقة الخس التي اشتريتها؟" فتنفخ وتقول: "حاضر."



بالنسبة للكثير من المعتصمين في الميدان ليست المطالب السياسية التي نزلت بهم إلى الشارع وحثتهم على الصمود وعدم فض اعتصامهم. بل هو فيضان الكيل وانفجار الغضب المكبوت. وبالتالي فإن النظر إلى الإعتصام والمظاهرات المليونية على أنها استراتيجية متبعة لاغتنام عدد من المكاسب السياسية لا يعطي للأحداث كامل حقها. فما يحدث في مصر الآن هو قبل كل شئ تعبير شعبوي ضخم عن اليأس والغبن المخزن، واللذان في ذروتهما لا يجدان مخرجا سوي فصل جميع السلوك وإيقاف ماكينة الحياة عن العمل تماما.



حد الجالسين في الحلقة عند عامود الإضاءة يقطع كلام محمود، ليرمي على الموجودين إحدى نكاته الفجة. يضحك الآخرون ثم يحاولون إسكاته ليتمم محمد كلامه - لكن لا رغبة هنا أقوى من الرغبة في الكلام والتنفيس عن الذات. أما صاحب المداخلة فهو شريف زينهم، وهو على حد وصفه لنفسه "صايع". وبالفعل فإن فمه نصف الشاغر دوما، شفته السفلية الضخمة وصفي أسنانه المهشمان قد يوحوا للبعض بشئ من الخبث وسوء النية. يتحدث بطريقة استعراضية ويلوح ويطيح ويشير بيديه للزيادة من وقع كلامه على المستمعين. يقول أحدهم مستهزئا:"انت شارب حاجة يله؟" فيرد: "بصراحة بلعت حبة ترامادول (مخدر قوي) ومزاجي عالي جدا!"
وماذا جاء به إلى الميدان؟ كان ذلك في "يوم الغضب." وكانت النفوس مضغوطة كانبوبة غاز قابل للاشتعال، وكفتها شرارة صغيرة وانفجرت. يخرج شريف من جيبه ورقة يقول إنها إثبات الإخلاء من خدمة الجيش. ثم يشير إلى خانة خالية في أسفلها ويضيف، عاقدا حاجبيه: "لم يكن ينقصني إلا إمضاء شيخ الحارة في هذه الخانة لأكون قد أنهيت خدمتي. لكنه رفض الإمضاء إلا مقابل مبلغ كبير من الرشوة لم أقدر على دفعه!"


خرج من بيت الشيخ لاعنا أبويه وشجرة أسلافه إلى آدم أبو البشر. ثم قذف بحبة مخدرة في فمه "لتضبيط الدماغ" وقرر التنزه في الشارع لتهدأة أعصابه. فلم يفق على نفسه إلا وهو واقف وسط حشود من المتظاهرين يحاولون اقتحام ميدان التحرير، وعناصر الشرطة تحاول تفريقهم بقنابل الغاز ورشاشات المياه والعصيان والرصاص الحي والمطاطي.
يقول "المتاتي" وليس "المطاطي" كعادة سكان الأحياء الشعبية. ومرة أخرى تتدخل يداه لتدعم كلامه، فيرفع قميصه ليكشف عن جسد تناثرت عليه البقع السوداء حيث أصيب بالرصاص واخترق جسده ليستقر تحت جلده. يسأله أحدهم: "لماذا لم تستعن بأحد الأطباء لإخراجه من جسدك؟" يقول ثاغرا فيه عن ابتسامة "صايعة" بحق: "لا، سأحتفظ به كتذكار."


و الشرارة التي فجرت الغضب في نفس محمد محمود؟ كانت باقة من أوراق الخس. أما الروافد التي أدت إلى هذه الحالة فهي تكاد تكون لا تحصى. تبدأ برفض صرف المعونة الحكومية للأم بعد وفاة الأب، وعندما ذهب للاستفسار عن السبب قالت الموظفة المختصة: "لا تستحق." يهز رأسه آسفا ويردد "لا تستحق... أم لسبعة أولاد يعيشون في غرفة واحدة. ويقولون لا تستحق." وتنتهي بالتخلي عنه كعامل دهان في المؤسسات التابعة للجيش، بعد اعتراضه على اختلاس بعض رؤسائه من الضباط للأموال.
وفي ذلك اليوم، يوم الجمعة 28 يناير، ذهب إلى الصالون فوجد الحماة تجلس جلستها المعتادة، رجل مضمومة إلى صدرها، والأخرى تتدلى من الكنبة الكبيرة. تبدو كسلطان زمانها على رأس ديوانها تنتظر قدوم الوزراء والسفراء والحكماء. ووقعت عيناه على باقة الخس في يدها، تنزع منها الورقة تلو الأخرى وتغرسها في فمها ليعلو صوت ماكينة أسنانها تهشمها. يحدق فيها غير مصدق ثم يقول: "لكن الخساية كانت للبنت." "تنظر إليه بتعالي وتقول: "خساية إيه يابو خساية."


لم يفقد أعصابه، لم يصرخ ويهدد ويشتم. فقط أدار ظهره وتحرك صوب الباب. وعندما جرت زوجته للحاق به ألقى عليها نظرة مستهزئة من فوق كتفه وقال: "أنت طالق." ولم يعد إلى بيته من حينها.


يمد الشاب الأنيق يده يمسح بها على كتف محمد مطمئنا. ينظر إليه الآخر ثم يغلق عينيه ويهز رأسه. بعد قليل يقول: "على فكرة لم أكن أتخيل أنه سيأتي اليوم الذي أجلس فيه هكذا مع أبناء الباشاوات كواحد منهم، نشارك بعضنا البعض الهموم والأكل ومكان المبيت."
مصر تغيرت، ولن تعود أبدا كما كانت.

















Archives

أغسطس 2005   سبتمبر 2005   يونيو 2006   أغسطس 2008   أكتوبر 2009   فبراير 2011   أبريل 2011   يوليو 2011  

This page is powered by Blogger. Isn't yours?