cccc: يوليو 2011

cccc

تحدث طبيبي النفسي عن ذلك الإنسان الذي يعود من المجاعة ناسيا كيف يأكل. على الموائد المعدة للمصالحة يقيء لاإراديا. أعتقد أنني أقيء أيضا بأشكال مختلفة Subversiveness is neither cool nor adolescent

السبت، شعبان ١٥، ١٤٣٢

 

ربنا موجود - قصة من وحي المنفى غير الاضطراري


في يوم مشمس كهذا قرر الله أن يخرج عن صمته ويتدخل في شئون عباده. لكنه ما لبث أن فطن بواسع علمه وعظيم جلاله إلى أن ظهوره على إحدى صوره المعهودة من قديم الأزل، لما يرتبط به لزاما من ترجيح كفة لغة وأمة وديانة على غيرها من المصرين اصرارا أعمى على انفرادهم بسره وأحقيتهم دون غيرهم في فائض علمه وغزير رحمته، كفيل ببث المزيد من الغمة بين الناس. لذا رأى جل جلاله أن يخرج على الناس في شكل كلمة بلا جسد وصوت غير مكلوم: على هيئة صفارة انذار.

في يوم مشمس كهذا خرج السيد شرايبر من منزله ليتنزه في الحديقة العامة غير البعيدة. كان قد خرج لتوه من نوبة اكتئاب عتية ولم يسمع بعد بما طرأ على الكون من تغيير. يمشي متعنطزا يضرب في الأرض ويختبر متانة نعل حذائه الجلدي الجديد. لولاه – لولا فرحته بشرائه وشغفه لاختباره – لما مرت النوبة بهذه السرعة. يقف لحظة ويخفض نظره إلى رجليه، يمسح بنظراته على الجلد الكستنائي الطري اللامع كمن يهدهد طفل رضيع. ياله من حذاء جميل. مائتا يورو سعر باهظ لكنها ليست خسارة في حذاء كهذا. يأخذ نفسا عميقا راضيا يملأ رئتيه برائحة الياسمين. يمضي إلى الحديقة كالماشي على وسادتين من ريش الأوز الناعم المنفوش.

فجأة. شكة في قلبه تعيد السواد إلى حياته. لازال كيانه هشا وعرضة للانهيار لأتفه الأسباب. يحتاج بشدة أن يصل إلى الحديقة ويفتح مسامه لشمس الربيع فتطهر ما ترسب بداخله من بلغم الحياة. لكن حصنه ينهار بسرعة وبعد دقيقة أخرى: لا سبيل للالتفاف على الحقيقة. تجحظ عيناه من وقع المفاجأة المؤلمة: هناك عيب لا يغتفر في الحذاء.

رقبة الحذاء الأيسر تكحت في كعبه الخارج. ليس بشكل مؤلم بالضرورة لكن مستفز بالتأكيد. يتسارع نبضه وتضرب السخونة في جسده وهو قابع مكانه في شلل مؤقت. بين مراكز عصبية مختلفة في دماغه حوار عنيف وشد وجذب. بعضها فطن إلى أن مصدر النغص احساس يضاهي في قوته وتأثيره ما قد تحدثه نملة تحمل منشارا ميكروسكوبيا من خراب في جزع شجرة كستناء معمرة. لكن... ليس السيد شرايبر الذي يتهاون مع الصغائر. فما باله بما قد يبدر منه سهوا من استسهال وسذاجة إلا وقد انقلبا عليه وتحولت التفاصيل الدقيقة على وداعتها إلى وحوش كاسرة وأورام سرطانية مستفحلة تلتهم كل مهمل بليد. لذا بدا له بعد ثوان قليلة من النزاع الداخلي أن الذهاب إلى محل الأحذية للمطالبة بنقوده أمر لابد منه.

والحقيقة أنه لولا انكفائه الشديد على ذاته وذبذباتها الدقيقة وتجاهله التام لما حوله لوجد السيد شرايبر – في هذه الأيام بالذات - في محيطه من دواعي الدهشة والسرور ما هو كفيل بتعزية حتى شخص مريض مثله. فلم يخلو وجه في هذه الأيام من ابتسامة ولو خاطفة، حتى باتت قسمات الوجوه بما تحمله من معان الرضا وصفاء النفس تضاهي أكثر مشاهد جبال الألب سحرا وخلابة. وكانت صفارة الإنذار تنبعث من مواضع مختلفة في محيط السيد شرايبر وتعلو على إثرها الضحكات والنوادر وتصفيق الأكف على الأكتاف في حميمية، لكن السيد شرايبر انشغل عنها ولو إلى حين.

وعندما دخل محل الأحذية كان هناك بائع جديد لا يعرفه فزاد ذلك من ارتباكه مثله مثل كل ما يشكل تهديدا لنمط حياته المألوف. البائع شاب طويل القامة نحيف يلبس بنطال أحمر محزق وفانلة بدون أكمام. كما أن وقفته مائلا بخصره إلى اليسار ساندا معصمه عليه توحي بألاطة غير مبشرة بالمرة.

"عفوا، أريد رد هذه..." قالها شرايبر وهو يدفع الكارتونة التي تحوي الحذاء عبر الكاونتر.

انقبضت أسارير الشاب وزفر في ضجر كمن يقول: "هذا كل ما كان ينقصني."

وفي بطء شديد بدي لشرايبر متعمدا فتح الكارتونة وأفرغها من محتواها، ثم أخذ يفحص الحذاء باهتمام.

"ماذا ينقصها؟"

تعجب شرايبر من السؤال فهو يتردد على المكان منذ سنين، واعتاد العاملون نزواته وشكواه التي قد تبدو غامضة، فجرت العادة على أن يجاروه مطيعين اختصارا للوقت.

قال متعلثما: "أريد ردها..."

"أعرف. لقد سبق أن قلت ذلك. على العموم أنا مضطر لرفض طلبك. عليها بعض الوسخ. يبدو أنك قد ارتديتها بالفعل..."

مع أنه قالها بنبرة لامبالاة، إلا أن وقع الكلمات على شرايبر كان كوقع صهيل خيول مغيرة على معسكر نائم في طمأنينة وسبات. أحس بهستيريا صارخة تتصاعد من أعماقه. كبس على أسنانه ليكبحها فخرج الكلام من فيه مضغوطا ثقيلا.

"وكيف... أجربها... دون أن ألبسها؟"

"كان عليك أن تجربها قبل أن تشتريها. أنا آسف. كم وددت ان أساعدك. لكن لا خيار لي."

في هذه اللحظة سمع صوت دوي شديد. ليس كصفارة إنذار تقليدية والتي تبدأ على مهل ولها صوت متثائب يتمطؤ في الهواء. بل أقرب إلى صفارة حكم، قصيرة ومضغوطة وقوية، تعلن عن نهاية شئ ما. شرايبر وضع أصابعه في آذانه بحركة تلقائية.

أما الشاب فوضع يده على فمه في حرج. ثم قال: "آسف. يبدو أنني أخطأت في حقك. سأرد لك النقود." ولما رأى علامات الدهشة على وجه شرايبر ابتسم في خجل ورفع سبابته في حركة خاطفة مشيرا إلى الفراغ فوقه.

قضب شرايبر حاجبيه ولم يعرف ما يقول. لحظة ذهول ومرت ثم زاده تصرف الشاب غضبا واشتعالا. كان يداعبه إذن! وكيف يجرؤ على مثل هذا الهراء السخيف؟ ياله من كلب واطئ! لن أعود إلى هذا المكان ما حييت!

وفي لحظة حسم أمره وترك المكان بخطى ثابتة دون أن ينظر خلفة ولو مرة واحدة. كاد يعدل عن عزمه عندما انطلق دوي الإنذار مرة أخرى فهم بالاستدارة للاستخبار عما طرأ. لكنه شد على نفسه وعجل من خطوته. كسور ثانية اضافية وكان خارج المحل.

في يوم مشمس كهذا كان الله بين البشر، وحتما سيعود. وكان الناس حينها يمشون في نشوة وذهول ويحييون بعضهم البعض بأن يقول أحدهم: "ربنا موجود"، فيبتسم الآخر ويرد: "حقا، إنه موجود، لم يعد لدي أدنى شك في ذلك." حتى السيد شرايبر، أكيد لن يبقى على صممه إلى الأبد.


Archives

أغسطس 2005   سبتمبر 2005   يونيو 2006   أغسطس 2008   أكتوبر 2009   فبراير 2011   أبريل 2011   يوليو 2011  

This page is powered by Blogger. Isn't yours?