تحكي لي كيف جائت إلى إسرائيل. دفعوا لها ثمن تذكرة الطائرة ورسوم الجامعة. قلت لها يبدو أنني سأبدأ في التنقيب عن أصول يهودية لعائلتي ثم أتقدم بطلب الحصول على جنسية اسرائيلية – لأتمتع بكل هذه المزايا.
كانت يوما ما متدينة. تلتزم بقواعد الحشمة وتستر العورة. أكمام البلوزة تغطي الذراع من الكتف إلى ما بعد الكوع. التنورة تحت الركبة، وباقى الساق تغطيها جوارب نايلون داكنة. الألوان تتراوح ما بين البني والبيج والأسود. بعد أن تزوجت داني لملمت شعرها كذلك تحت قطعة قماش.
تدخل المدينة القديمة من باب صهيون الغربي. تمسح بيدها على الميزوزا الحديدة الصغيرة المثبتة على الباب ثم تقبلها، وتتذكر قول الرب: "ولتكن هذه الكلمات التي انا اوصيك بها اليوم على قلبك وقصّها على اولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك واكتبها على قوائم ابواب بيتك وعلى ابوابك ومتى أتى بك الرب الهك الى الارض التي حلف لآبائك ابراهيم واسحق ويعقوب ان يعطيك.الى مدن عظيمة جيدة لم تبنها وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها وآبار محفورة لم تحفرها وكروم وزيتون لم تغرسها واكلت وشبعت فاحترز لئلا تنسى الرب الذي اخرجك من ارض مصر من بيت العبودية." تستمر في طريقها إلى حائط المبكى، مرورا بشارع باتيي ماخاز وشارع مزجاف لاداخ. تعرف أن هناك شوارع من المستحسن ألا تدخلها. تلوح لها من طرف عينها وهي تمشي كبقع ألوان مفرقعة وأصوات وروائح. هناك قانون يمنع البناء في القدس الغربية كلها بغير حجر المدينة القديمة الجيرى. لذا ذلك الجزء من المدينة يغلب عليه اللون الأصفر.
للقدس أبواب وإسرائيل كذلك لها مداخل عدة! ثم ليس فقط مهما من أين تدخل، بل أيضا من أين تأتي! كأني جسد مغناطيسي يلتقط شظايا الأماكن التي يخترقها فتظل عالقة به.
أن تهبط إلى إسرائيل من الجو غير أن تزحف عليها برا. في زيارتي الأخيرة جئت من أوروبا ونزلت في واحة أوروبية صغيرة في الشرق الأوسط – فلم يلتقط عدادي الثقافي السايسموغرافي أي اضطرابات! ولعل هذا هو ما جعلني أستهين بأوجه الخلاف بين اسرائيل ومصر تحديدا. فلا توجد بين البلدين ملفات عسكرية مفتوحة. لماذا إذا غالبية المصريين– والمثقفون بالذات – مستمرين في مقاطعة إسرائيل؟ أهو مزيج من الإرث الناصري وكراهية الإسلاميين المبالغ فيها لليهود؟ وكلها أيديولوجيات تستخدم اليهودي والإسرائيلي كآخرِها، وبدونه لم تكن لتتمكن من صياغة هوية واضحة. أم أن في المقاطعة عنصر تكتيكي – استخدامها كوسيلة ضغط على اسرائيل كي تمضي قدما في عملية السلام؟ وهل اسرائيل تبالي حقا بعلاقاتها بجيرانها؟ أكثر مما تبالي بمصالح مستوطنيها ومصادر مياهها؟
هذه المرة عبرت الحدود عند طابا. ركتب الباص من القاهرة الساعة العاشرة مساءا. نصل والفجر يشقشق. سكون سحري/مرعب يخيم على صحراء سيناء. أنزل وأرتجل الكيلومتر الأخير إلى المعبر. طابا مدينة أشباح. احساس أقرب إلى الذعر سيعاودني مرارا أثناء رحلتي. احتجت إلى بعض الوقت لأفك شفرته. عندما تتكون لديك صورة واضحة لشئ ما – وتتضخم بشكل سرطاني بفعل سنوات من عدم الاقتراب. الصورة والواقع لبضعهما كطرفي مقص!
أنظر حولي برهبة شديدة وأردد في ذهني ما أرى كما لو كنت أدونه. صحراء. جبال. مبنى زجاجي كبير على الناحية المصرية. عائلات عربية كثيرة، الأمهات محجبات وبدينات. معهم طبعا أمتعة كثيرة. أعرف لماذا أحملق هكذا في الأشياء. لكنني لن أجد ما أبحث عنه، لن أجد "إسرائيل" في الجبال وبالتأكيد لن أجدها في وجوه الناس. في خلفية رأسي صوت يحاول أن يحل الأزمة ويردد، كما لو كان يضع ملصقات على الأشياء: "لاتنسي، هذه إسرائيل المخيفة". جزء يرى ويسجل ويسمع، وجزء يقف له بالمرصاد، كأنه يخشى أن ينفلت من قبو الذاكرة.
To be continued
أغسطس 2005 سبتمبر 2005 يونيو 2006 أغسطس 2008 أكتوبر 2009 فبراير 2011 أبريل 2011 يوليو 2011